د. بهاء الدين محمد مزيد
أثرُ الفراشة لا يُرى
أثرُ الفراشة لا يزول. ((محمود درويش))
طرائق دراسة الشعر
قال أبو الفرج قدامة بن جعفر: العلم بالشعر ينقسم أقساماً، فقسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به، وقسم ينسب إلى علم جيّده ورديئه. (قدامة بن جعفر: نقد الشعر، نسخة موقع الورّاق، ص 1)
-
مقاربة شارحة مدرسية.
اللغة مباشرة وشفيفة، والشاعر هو المتكلّم في النّص. تنطلق هذه المقاربة من الاعتقاد أنّ الشعر سجل وقائع وأحداث، وأنّ اللغة تنتج دلالاتها بطريقة مباشرة لا مواربة فيها، إلا من باب المحسنات والصور التي تقتصر وظائفها على تجسيد الفكرة المجرّدة وتأكيد المعنى. وهذا هو مجمل ما نجد في الكتب المدرسيّة في الأدب والنّصوص. في نقد الشعر يصف قدامة هذه المقاربة بقوله “وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به”. قد تقع دراسة الشعر بوصفه سجل أفكار في أشراك منها المطابقة بين الشاعر والمتكلّم في النص، والمساواة بين حقائق الواقع والعلوم الطبيعية من جهة وحقائق الشعر ومقولاته من جهة أخرى.
-
مقاربة بنائيّة فنيّة.
تتجه نحو الشكل والبناء، وقد تصل ذلك بالمعنى، لكنّ التركيز على الشكل قد يفقد القصيدة حيويّتها وينتهي بها إلى مجموعة من الأرقام والجداول والعلاقات التركيبية المفرّغة من الدلالة. أفضل ما يمكن أن تفعل هذه المقاربة هي أن تربط المعنى بالمبني وأن تتناول الخيارات اللغوية والبلاغية بوصفها خيارات واعية تنتج دلالات. تنتظم هذه المقاربة ثلاثة أقسام من أقسام نقد الشعر في تصوّر قدامة بن جعفر – “فقسم ينسب إلى علمعروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته”. (في تقسيم قدامة إشارة أخيرة إلى قسم ينسب إلى علم جيّد الشعر ورديئة، ويكثر هذا في نقد الموازنات التاريخية المشهورة وفي المقارنة التقليدية التي تطلبها مقررات النصوص من طلاب المدارس الثانوية – أي البيتين أجمل ولماذا؟)
-
مقاربة الشعور والتأثير.
تتناول ما في القصيدة من مشاعر – والشعر في بعض تعريفاته الرومانسية فيضان مشاعر صادقة عميقة تلقائيّة غير مرتّبة أو مصطنعة، أو كما قال ويليام ووردزورث – وحالات نفسيّة، ونصيبها من الصدق والافتعال، والأصالة والابتذال. وقد تتجاوز ذلك إلى تأثير القصيدة في المتلقّي. ولا بدّ أن تشير هذه المقاربة إلى الارتباط المحتوم بين ما في القصيدة من أفكار وأغراض ومقاصد وما فيها من حالات نفسية ووجدانيّة وانتقال ذلك كلّه إلى المتلقّي وتأثيره فيه.
-
مقاربة الأداء.
لم تكن نظرية “أفعال الكلام” في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين أول ظهور للفكرة غير أنّها منحت المصطلح أهميّة ورسوخاً، فالكتابة عن الكتابة قديمة قدم الكتابة نفسها والشعر الشارح قديم قدم الشعر، نجد دلالات على ذلك في (الأوديسّة) لهوميروس وفي (حكايات كانتربيري) لتشوسر وفي (ألف ليلة وليلة) وفي (السيرة الهلالية). ليس هناك ما يبرّر القول إنّ “الأداء” فكرة عربيّة بل هي فكرة إنسانيّة تظهر في مختلف النصوص في كلّ زمان ومكان بدرجات متفاوتة وخلف أقنعة شتّى، على أن طبيعة الكتابة في الثقافة العربيّة وتراكم الخبرات والقيود التي تحيط بالأدب عموما، خصوصا السير ذاتي والأنثوي والشعري والعاطفي، ومركزيّة النصوص في تلك الثقافة تمنح فكرة الأداء أهمية خاصّة. في هذه المقاربة انشغال بعلاقة الشاعر بالنّص وعلاقته بالقارئ وعلاقة النّص بنفسه.
لا بأس في اصطفاء مقاربة دون غيرها – على صعوبة الفصل بين جوانب النّص موضع التحليل – وفق غايات الدراسة وطبيعة النّص، لكنّ الدراسة الوافية لا تترك شيئا من هذه الجوانب إلّا تناولته في علاقته بغيره من جوانب القصيدة. كلّ نصّ وكلّ خطاب ينتج دلالات، ذلك لأنّ فيه، والكلام لألتون بيكر Becker (2000)، بقليل من التصرّف، (1) بناء– عبارات وجمل وفقرات وغير ذلك، (2) تذكّر– نصوص وخطابات سبقت أو حوادث وقعت أو حالات سلفت أو كلّ ذلك، (3) تعبير– بالأصوات أو الحروف أو الخطوط أو الألوان أو غيرها من العلامات، (4) تفاعل– بين المؤلّف والنّص وبين المؤلّف والمتلقي وبين الشخصيّات في النّص، أو بين المتكلم والمستمع، (5) إشارة أو إحالة– إلى العالم الخارجي الذي يحيط بالنّص أو الخطاب وإلى العالم داخل النّص أو الخطاب، وإلى أجزاء النّص أو الخطاب السابقة واللاحقة.بعبارة أخرى، في كلّ خطاب أو نصّ علاقات وارتباطات صنّفها بيكر إلى العلاقات البنائيّة ثم العلاقات النوعيّة (علاقة النصّ أو الخطاب بغيره من النّصوص والخطابات وعلاقته بجنسه أو نوعه) ثم العلاقات الوسائطيّة (علاقة النصّ أو الخطاب بالوسيط أو الوسيلة التي ينتقل بها إلى المتلقّي)، فالعلاقات الإنسانيّة والعلاقات الإشاريّة والعلاقات الصامتة المسكوت عنها.
فيما بقي من هذه الدراسة العابرة تركيز على جانب الأداء في مجموعة القصائد موضع النظر والتحليل، ليس لأنّ فكرة الأداء ظلّت قاصرة على النّصوص السردية فحسب، بل لأنّ في هذه القصائد انشغال ظاهر بالشعر والكتابة ومكابداتها، بالإشارة إلى الذات الشاعرة والإشارة إلى العالم الذي يحيط بها في آن، بفعل الكتابة في عالم مربك ومرتبك، وبالقصيدة في انتمائها إلى جنسها الواسع الرحب، وفي انشغالها بمكان الشعر والشاعر ومكانتهما وعلاقتهما بما يحيط بهما من كائنات وموجودات، وغير ذلك مما تكشف عنه هذه القراءة.
في انشغال القصيدة بنفسها، في الشعر عن الشعر، إشارات إلى مصادر الإبداع وهواجس الشاعر وتصوّراته عن الشعر. وتشتمل الكتابة عن الكتابة إجمالا، بما في ذلك الشعر عن الشعر، محاورة نصوص أخرى وشعراء آخرين على سبيل التّناص أو المحاكاة أو المساءلة. يكثر الانشغال بالقصيدة في فترات الارتباك الثقافي والحضاري وفترات الانتقال من أنساق شعرية قديمة إلى أخرى جديدة وكذلك في مكابدة الإبداع الشعري على الهامش بعيدا عن مناطق الضوء وعواصم الثقافة الرسمية.
هذه هي المجموعات الشعريّة التي تناولتها الدراسة، لا بالتحليل المسهب ولا بالقراءة الشاملة، بل بالنظر في انشغالها بالشعر والكتابة:
- حسن عامر أكتب بالدم الأسود
- عبد الرحمن مقلد: مساكين يعملون في البحر
- محمد إسماعيل: ألواح الريح والرمل
- أيمن ثابت: قصائد مختارة
- محمد المتيم: قصائد متفرّقة
- محمد عبّادي: قصائد متفرّقة
- أحمد عايد: وقت أحمد عايد
- حاتم الأطير: مختارات شعرية
النزعة الغنائية في القصائد ظاهرة لا ريب فيها وكذا انشغال الشعراء بالإبداع ومكابدات الكتابة كما يتضّح من القصائد التي تشير إليها الدراسة فيما بقي منها. وفي القصائد توتّر كذلك بين الإيقاعات الشعريّة التقليدية والصور المكرورة من جهة والرغبة في الخروج والتجريب من جهة أخرى. (في عدد محدود من القصائد أخطاء لغويّة واستنساخ قوالب وتجارب تفقد القصائد قدرا كبيرا من أصالتها).
موضوعات متعلقة:
باحت مجازات بسر اللفظة الأولى..عن الانشغال بالنص في قصائد من الأقصر (2)
باحت مجازات بسر اللفظة الأولى.. عن الانشغال بالنص في قصائد من الأقصر (3)
باحت مجازات بسر اللفظة الأولى.. عن الانشغال بالنص في قصائد من الأقصر (4)
